كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ثم إن الله جعلهم آية لأنفسهم وللناس فبعثهم من مرقدهم ولم يعلموا مدة مكثهم وأرسلوا أحدهم إلى المدينة، وهي أبسس، بدراهم ليشتري لهم طعامًا.
فعجب الناس من هيئته ومن دراهمه وعجب هو مما رأى من تغيير الأحوال.
وتسامَع أهل المدينة بأمرهم، فخرج قيصر الصغير مع أساقفةٍ وقسيسين وبطارقة إلى الكهف فنظروا إليهم وكلموهم وآمنوا بآيتهم، ولما انصرفوا عنهم ماتوا في مواضعهم، وكانت آية تأيّد بها دين المسيح.
والذي في كتاب الطبري أن الذين ذهبوا إلى مشاهدة أصحاب الكهف هم رئيسا المدينة أريوس و أطيوس ومن معهما من أهل المدينة، وقيل لما شاهدهم الناس كتبَ واليا المدينة إلى ملك الروم، فحضر وشاهدهم وأمر بأن يبنى عليهم مسجد.
ولم يذكروا هَلْ نُفّذ بناء المسجد أو لم ينفذ.
ولم يذكر أنه وقع العثور على هذا الكهف بعد ذلك.
ولعله قد انهدم بحادث زلزال أو نحوه كرامة من الله لأصحابه، وإن كانت الأخبار الزائفة عن تعيينه في مواضع من بلدان المسلمين في أقطار الأرض كثيرة.
وفي جنوب القطر التونسي موضع يُدعى أنه الكهف.
وفي مواضع أخرى من بادية القطر مشاهد يسمونها السبعة الرقود اعتقادًا بأن أهل الكهف كانوا سبعة.
وستعلم مثار هذه التوهمات.
وفي تفسير الألوسي عن ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: غزونا مع معاوية غزو المَضيق نحو الروم فمررنا بالكهف الذي فيه أصحاب الكهف.
فقال معاوية: لو كُشف لنا عن هؤلاء فنظرنا إليهم، فقال ابن عباس: ليس ذلك لك، قد منع الله ذلك مَن هو خير منك، فقال: {لو اطلعتَ عليهم لوليتَ منهم فرارًا} [الكهف: 18] فقال معاوية: لا أنتهي حتى أعلم علمهم فبعث رجالًا وقال: اذهبوا فادخلوا الكهف وانظروا، فذهبوا فلما دخلوه بعث الله عليهم ريحًا فأخرجتهم.
وروى عبد الرزاق وابن أبي حاتم عن عكرمة: أن ابن عباس غزا مع حبيب بن مسلمة فمروا بالكهف فإذا فيه عظام. فقال رجل: هذه عظام أهل الكهف. فقال ابن عباس: لقد ذهبت عظامهم منذ أكثر من ثلاثمائة سنة.
وفي تفسير الفخر عن القفال عن محمد بن موسى الخوارزمي المنجم: أن الواثق أنفذه ليعرف حال أصحاب الكهف، فسافر إلى الروم فوجه ملك الروم معه أقوامًا إلى الموضع الذي يقال إنهم فيه، قال: وإن الرجل الموكل بذلك الموضع فزعني من الدخول عليهم، قال: فدخلت ورأيت الشعور على صدورهم، قال: وعرفت أنه تمويه واحتيال، وأن الناس كانوا قد عالجوا تلك الجثث بالأدوية المجففة لأبدان الموتى لتصونها عن البلى مثل التلطيخ بالصبر وغيره. اهـ.
وقوله: فسافر إلى الروم مبني على اعتقادهم أن الكهف كان حول مدينة أفسوس بالفاء أخت القاف وهو وهم حصل من تشابه اسمي البلدين كما نبهنا عليه آنفًا، فإن بلد أفسس في زمن الواثق لا تزال في حكم قياصرة الروم بالقسطنطينية، ولذلك قال بعض المؤرخين: إن قيصر الروم لما بلغته بعثة الجماعة الذين وجههم الخليفة الواثق، أمر بأن يجعل دليل في رفقة البعثة ليسهل لهم ما يحتاجونه، أما مدينة أبسس بالباء الموحدة فقد كانت حينئذٍ من جملة مملكة الإسلام.
قال ابن عطية: وبالأندلس في جهة أغرناطة بقرب قرية تسمى لُوشة كهف فيه موتى ومعهم كلب رمة، وأكثرهم قد انجرد لحمه وبعضهم متماسك، وقد مضت القرون السالفة ولم نجدْ مِن علم شأنهم أثارةً، ويزعم الناس أنهم أصحاب الكهف، دخلت إليهم ورأيتُهم سنة أربع وخمسمائة، وهم بهذه الحال وعليهم مسجد وقريب منهم بناء رومي يسمى الرقيم كأنه قصر محلق كذا بحاء مهملة لعله بمعنى مستدير كالحلقة وقد بقي بعض جدرانه وهو في فلاة من الأرض حَزنة، وبأعلى حَضرة أغرناطة مما يلي القبلة آثار مدينة قديمة رومية يقال لها مدينة دقيوس وجدنا في آثارها غرائب في قبورها ونحوها. اهـ.
وقصة أهل الكهف لها اتصال بتاريخ طور كبير من أطوار ظهور الأديان الحق، وبخاصة طور انتشار النصرانية في الأرض.
وللكهوف ذكر شائع في اللوْذ إليها والدفن بها.
وقد كان المتنصرون يُضطهدون في البلاد فكانوا يفرون من المدن والقرى إلى الكهوف يتخذونها مساكن فإذا مات أحدهم دفن هنالك، وربما كانوا إذا قتلوهم وضعوهم في الكهوف التي كانوا يتعبدون فيها.
v ولذلك يوجد في رومية كهف عظيم من هذه الكهوف اتخذه النصارى لأنفسهم هنالك، وكانوا كثيرًا ما يستصحبون معهم كلبًا ليدفع عنهم الوحوش من ذئاب ونحوها.
وما الكهف الذي ذكره ابن عطية إلا واحد من هذه الكهوف.
غير أن ما ذكر في سبب نزول السورة من علم اليهود بأهل الكهف، وجعلهم العلم بأمرهم أمارة على نبوءة محمد صلى الله عليه وسلم يبعد أن يكون أهل الكهف هؤلاء من أهل الدين المسيحي فإن اليهود يتجافون عن كل خبر فيه ذكر للمسيحية، فيحتمل أن بعض اليهود أووا إلى بعض الكهوف في الاضطهادات التي أصابت اليهود وكانوا يأوون إلى الكهوف.
ويوجد مكان بأرض سُكرة قرب المرسى من أحواز تونس فيه كهوف صناعية حقق لي بعض علماء الآثار من الرهبان النصارى بتونس أنها كانت مخابئ لليهود يختفون فيها من اضطهاد الرومان القرطاجنيين لهم.
ويجوز أن يكون لأهل كلتا الملتين اليهودية والنصرانية خبرًا عن قوم من صالحيهم عرفوا بأهل الكهف أو كانوا جماعة واحدة ادعى أهل كلتا الملتين خبرها لصالحي ملته، وبُني على ذلك اختلاف في تسمية البلاد التي كان بها كهفهم.
قال السهيلي في الروض الأنف: وأصحاب الكهف من أمة عجمية والنصارى يعرفون حديثهم ويؤرخون به. اهـ.
وقد تقدم طرف من هذا عند تفسير قوله تعالى: {ويسألونك عن الروح} في سورة الإسراء (85).
{إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10)}.
{إذ} ظرف مضاف إلى الجملة بعده، وهو متعلق ب {كانوا} [الكهف: 9] فتكون هذه الجملة متصلة بالتي قبلها.
ويجوز كون الظرف متعلقًا بفعل محذوف تقديره: اذكر، فتكون مستأنفة استئنافًا بيانيًا للجملة التي قبلها.
وأيًا ما كان فالمقصود إجمال قصتهم ابتداء، تنبيهًا على أن قصتهم ليست أعجب آيات الله، مع التنبيه على أن ما أكرمهم الله به من العناية إنما كان تأييدًا لهم لأجل إيمانهم، فلذلك عطف عليه قوله: {فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة}.
وأوى أُوِيًا إلى المكان: جعله مسكنًا له، فالمكان: المَأْوَى.
وقد تقدم عند قوله تعالى: {أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون} في سورة يونس (8).
والفتية: جمع قلة لفتى، وهو الشاب المكتمل.
وتقدم عند قوله تعالى في سورة يوسف.
والمراد بالفتية: أصحاب الكهف.
وهذا من الإظهار في مقام الإضمار لأن مقتضى الظاهر أن يقال: إذ أووا، فعدل عن ذلك لما يدل عليه لفظ الفتية من كونهم أترابًا متقاربي السن.
وذكرهم بهذا الوصف للإيماء إلى ما فيه من اكتمال خُلق الرجولية المعبر عنه بالفتوة الجامع لمعنى سداد الرأي، وثبات الجأش، والدفاع عن الحق، ولذلك عدل عن الإضمار فلم يقل: إذ أووا إلى الكهف.
ودلت الفاء في جملة {فقالوا} على أنهم لما أووا إلى الكهف بادروا بالابتهال إلى الله.
ودعوا الله أن يؤتيهم رحمة من لدنه، وذلك جامع لخير الدنيا والآخرة، أي أن يمن عليهم برحمة عظيمة تناسب عنايته باتباع الدين الذي أمر به، فزيادة {من لدنك} للتعلق بفعل الإيتاء تشير إلى ذلك، لأن في {من} معنى الابتداء وفي لدن معنى العندية والانتساب إليه، فذلك أبلغ مما لو قالوا: آتنا رحمة، لأن الخلق كلهم بمحل الرحمة من الله، ولكنهم سألوا رحمة خاصة وافرة في حين توقع ضدها، وقصدوا الأمن على إيمانهم من الفتنة، ولئلا يلاقوا في اغترابهم مشقة وألمًا، وأن لا يهينهم أعداء الدين فيصيروا فتنة للقوم الكافرين.
ثم سألوا الله أن يقدر لهم أحوالًا تكون عاقبتها حصول ما خولهم من الثبات على الدين الحق والنجاة من مناواة المشركين.
فعبر عن ذلك التقدير بالتهيئة التي هي إعداد أسباب حصول الشيء.
و{من} في قوله: {من أمرنا} ابتدائية.
والأمر هنا: الشأن والحال الذي يكونون فيه، وهو مجموع الإيمان والاعتصام إلى محل العزلة عن أهل الشرك.
وقد أعد الله لهم من الأحوال ما به رشدهم.
فمن ذلك صرف أعدائهم عن تتبعهم، وأن ألهمهم موضع الكهف، وأن كان وضعه على جهة صالحة ببقاء أجسامهم سليمةً، وأن أنامهم نومًا طويلًا ليمضي عليهم الزمن الذي تتغير فيه أحوال المدينة، وحصل رَشَدهم إذ ثبتوا على الدين الحق وشاهدوه منصورًا متبعًا، وجعلهم آية للناس على صدق الدين وعلى قدرة الله وعلى البعث.
والرَّشد بفتحتين: الخير وإصابة الحق والنفع والصلاح، وقد تكرر في سورة الجن باختلاف هذه المعاني.
والرُشد بضم الراء وسكون الشين مرادف الرَّشَد.
وغلب في حسن تدْبير المال.
لم يقرأ هذا اللفظ هنا في القراءات المشهورة إلا بفتح الراء بخلاف قوله تعالى: {قد تبين الرشد من الغي} في البقرة (256)، وقوله: {فإن آنستم منهم رشدًا} في سورة النساء (6) فلم يقرأ فيهما إلا بضم الراء.
ووجه إيثار مفتوح الراء والشين في هذه السورة في هذا الموضع وفي قوله الآتي: {وقل عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشدا} [الكهف: 24]: أن تحريك الحرفين فيهما أنسب بالكلمات الواقعة في قرائن الفواصل؛ ألا ترى أن الجمهور قرؤوا قوله في هذه السورة: {على أن تعلمني مما علمت رشدا} [الكهف: 66] بضم الراء لأنه أنسب بالقرائن المجاورة له وهي {من لدنا علمًا} [الكهف: 65] {معي صبرًا} [الكهف: 67] {ما لم تحط به خُبرا} [الكهف: 68] {ولا أعصي لك أمرًا} [الكهف: 69] إلى آخره.
ولم يقرأه هنالك بفتح الراء والشين إلا أبو عمرو ويعقوب.
{فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12)}.
تفريع هذه الجملة بالفاء إما على جملة دعائهم، فيؤذن بأن مضمونها استجابة دعوتهم، فجعل الله إنامتهم كرامة لهم.
بأن سلمهم من التعذيب بأيدي أعدائهم، وأيد بذلك أنهم على الحق، وأرى الناس ذلك بعد زمن طويل.
وإما على جملة {إذ أوى الفتية} [الكهف: 10] إلخ فيؤذن بأن الله عجَل لهم حصول ما قصدوه مما لم يكن في حسبانهم.
والضرب: هنا بمعنى الوضع، كما يقال: ضرب عليه حجابًا، ومنه قوله تعالى: {ضربت عليهم الذلة} [البقرة: 61]، وقد تقدم تفصيله عند قوله تعالى: {إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلًا ما} [البقرة: 26].
وحذف مفعول {ضربنا} لظهوره، أي ضربنا على آذانهم غشاوة أو حائلًا عن السمع، كما يقال: بنَى على امرأته، تقديره: بنى بيتًا.
والضرب على الآذان كناية عن الإنامة لأن النوم الثقيل يستلزم عدم السمع، لأن السمع السليم لا يحجبه إلا النوم، بخلاف البصر الصحيح فقد يحجب بتغميض الأجفان.
وهذه الكناية من خصائص القرآن لم تكن معروفة قبل هذه الآية وهي من الإعجاز.
و{عددًا} نعتُ {سنين}.
والعدد: مستعمل في الكثرة، أي سنين ذات عدد كثير.
ونظيره ما في حديث بدء الوحي من قول عائشة: فكان يخرج إلى غار حراء فيتحنّث فيه الليالي ذوات العدد تريد الكثيرة.
وقد أجمل العدد هنا تبعًا لإجمال القصة.
والبعث: هنا الإيقاظ، أي أيقظناهم من نومتهم يقظة مفزوع.
كما يُبعث البعير من مَبركه.
وحسن هذه الاستعارة هنا أن المقصود من هذه القصة إثبات البعث بعد الموت فكان في ذكر لفظ البعث تنبيه على أن في هذه الإفاقة دليلًا على إمكان البعث وكيفيته.
والحزب: الجماعة الذين توافقوا على شيء واحد، فالحزبان فريقان: أحدهما مصيب والآخر مخطئ في عد الأمد الذي مضى عليهم.